مقدمة:

عرف المجتمع الجزائري عدة تحولات بنائية مست مختلف المكونات الرمزية و المادية المشكلة له....،و سبب ذلك راجع إلى التسارع الكبير نحو التحضر و الذي مس أغلب الجزائريين طبعا خاصة في المرحلة ما بعد الاستعمار ،سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة

و المدن الجزائرية لم تكن في وضع الإستعداد لتقبل و إستقبال الحشود الضخمة للوافدين و بأعداد كبيرة إلى المدن من مناطق ريفية بالدرجة الأولى.

وافدون جدد على اختلاف تكويناتهم الثقافية و الأخلاقية و القيمية،و أنماط سلوك، و تفكير و طرقهم في التضامن حيث انتقلوا الى المدينة طبعا سعيا وراء حياة أفضل ، و ذلك لتكون صورة رمزية نمطية عند الفرد الجزائري مفادها أن المدينة رمز للإرتقاء الاجتماعي، و إرتفاع المكانة الاجتماعية....في حين كان يمثل الريف صورة قوية للبؤس و الفقر.

خلال سنوات قليلة بعد الاستقلال أصبحت المدن الجزائرية عبارة عن تجمعات بشرية كبيرة و في تزايد مستمر ، غير مخططة و غير مهيكلة و تفتقر لأبسط ظروف العيش الكريم من مرافق و خدمات صحية ،النقل ، التعليم ، الترفيه ......

1-تحولات العائلة الجزائرية:

تفكك و انقسام العائلة الممتدة تحت ضغط الظروف المادية و السكنية الصعبة، مع تزايد الفوارق الاجتماعية بين الأحياء الفقيرة و الأحياء الراقية.... و كذا خروج المرأة إلى الفضاء العام (الذي كان رجوليا بدون أدنى شك) للعمل و الدراسة .

عوامل قوية أعادت صياغة العلاقة بين الفضاء العام (برا) و الفضاء الخاص (داخل) حيث سيتم إعادة بناء و تشكيل و رسم علاقة جديدة بين الفضائين،

فضاء خاص يحتمي فيه الفرد ،و فضاء عام يمثل مصدرا للقوت و العمل بالنسبة للأفراد.

وجد الفرد أو الرجل الريفي الأصل نفسه أمام واقع تشوبه تناقضات تفرض ضرورة خروج المرأة للعمل و الدراسة،تحت ضغط الأزمات الاقتصادية ،و إجبارية التعليم

لكن البرا أو الشوارع التي تمر بها تسوده فوضى أخلاقية و انحلال أخلاقي غير متحكم فيه،أ] ليس  كما يريده هو (الرجل الريفي الأصل) كيف سيجابه المجتمع الذكوري الذي تورط فيه من دون شعور أو انتباه لذلك؟؟

سيحاول المجتمع الذكوري توظيف أو استحضار العامل الديني  لمحاولة إعادة النظام الأخلاقي للفضاء العام ،الذي أصبح طريقا و ممرا للمرأة الحاملة للضرف و ترمز إليه. و قد استحضر الدين هنا على مستويين هما:

-       على مستوى المرأة المقبلة كوافد جديد على الفضاء العام

-       على مستوى الفضاء نفسه

فعلى سبيل المستوى الأول فمنذ الثمانينات من القرن الماضي فقد شهد الشارع الجزائري انتشارا قويا لارتداء الحجاب....

أما الفضاء العام أو الشارع (البرا)  فقد شهدت نفس  الفترة تقريا محاولة أخلقة الشارع و أسلمة الشارع  أو الفضاء العام عبر حملة اجتماعية أو مجتمعية متبنيتا مجموعة سلوكات و ممارسات تهدف من خلالها الى محاربة الفساد الأخلاقي ....كتنظيم حملات ضد اللباس الفاضح ،مثلا محابرة الاختلاط في المؤسسات العمومية عبر وضع شبابيك خاصة بالنساء....

2-ارتداء الحجاب من رمز للتدين إلى استراتيجية لاختراق الفضاء العام :

هل عودة ارتداء الحجاب في منتصف الثمانينات ، و الذي تزامن مع صعود  الحركة الإسلامية،يمثل توجها نحو التدين فقط؟أم انه ضمن الإستراتيجيات النسوية لإقتحام الفضاء العام الذي كان رجوليا ان ذاك و بإمتياز؟؟

على الباحثين في مجال تحليل  الممارسات و السلوكات التي تستعمل الرموز الثقافية و الدينية ، و يجب عليه دائما أن يضعها في اطار السياق الذي تطهر فيه أو ظهرت فيه... لتجنب اصدار احكام قيمية أو متسرعة و جاهزة حيث لا يمكن الفصل بين التوجه نحو التحجب كنزعة ناتجة عن صعود، و ظهور الحركة الإسلامية (في تلك الفترة الزمنية الثمانينات)، و كذا بين العوامل الاجتماعية التي غيرت من وضعية المرأة خاصة في مجال التعليم.

في سنة 1984 و بعد اقرار قانون الأسرة الجديد المستمد من الشريعة الإسلامية إنتشرت في الفضاء العام الجزائري و الشارع الجزائري موجة عارمة من الدعوات( إلى فرض لياس محتشم)  على النساء و محاولة أخلقت الشارع طبعا من طرف خاصة الاسلاميين أو  الحركة الإسلامية عموما ....و التي ظهرت إلى العلن و بلغت ذروتها في بداية التسعينات حيث كان ( في إطار أخلقة الشارع) يعتدى على المرأة التي تلبس لباسا فاضحا أو غير محتشم .....

إن مسألة تسييس الإسلام يتجلى بوضوح خاصة في الأخزاب السياسية التي كانت تنشط بعد الانتقال إلى التعددية السياسية أو ما يسمى بالتفتح و الإنقتاح السياسي

في دستور 1989 الذي جاء في سياق أو إطار خاص ميزنه عدة تحولات بنائية عميقة خاصة في ما يتعلق مثلا  الزيادة الرهيبة لسكان المدن و ارتفاع نسبة التعليم لدى النساء ....

في ظل هذا الوضع سيحاول الفرد الجزائري (الرجل) المؤمن المسلم  أن يقضي على الانحلال الخلقي الذي يسود الفضاء العام و الشارع( وهو طبعا تحت تأثير الإيلام السياسي خاصة ) و ذلك في ما يتعلق أساسا بخروج المرأة إلى العمل ....و اللباس الفاضح و محاربة الإختلاط في المؤسسات العمومية.....حيث يحاول المجتمع الذكوري أن يقاوم خروج المرأة من مملكته،و عبر توظيف و استدعاء الدين أو العنصر الديني  الذي يعمل على قدر المستطاع على إبقاء المرأة داخل الفضاء المنزلي....و إن كان عاجزا سيحاول تقبل خروجها بأقل الأضرار الممكنة على مملكته و سمعته و ما يعتبر عنده شرفا.

طوال فترة الثمانينات و بدايات التسعينات خاصة و مع الممارسات الأخلاقية و الدينية لما يسمى بالإسلام السياسي( السعي إلى أخلقة الشارع زائد عدم  خروج المرأة الى الفضاء العام إلا للضرورة) هذه الأفكار و الممارسات وجدت نسبة عالية من التوافق مع الإيديولوجية الأبوية الذكورية و كانت تمثل مجالا للاطمئنان لديها خاصة اجتماعيا بمعنى آخر توافق مطالب الإسلام السياسي مع الإيديولوجية الأبوية و الذكورية،و يتجلى ذلك خاصة في تمديد و نقل الفضاء الأسري العائلي إلى الفضاء العام ،أي تسيير الفضاء العام بنفس النسق المعياري و القيمي و الأخلاقي الذي تسير به العائلة.

تحمل هذه  الممارسات التي تعني الإيديولوجية الأبوية تصور مجتمع موحد أخلاقيا أو قيميا أو كأنه أسرة أو عائلة واحدة....(طبعا بالخضوع إلى النظام الأخلاقي و المعيار الإسلامي) فحسبه المرأة المرأة موقعها الأصلي أو مكانها الأساسي هو المنزل أو البيت.....و يمنع خروجها بمفردها دون موافقة الرجل على ذلك و في حالة الضرورة فإنه يفض شروط قاسية و صارمة، تتعلق بتسيير المظهر الخارجي و اللباس خاصة(وفق ما تقتضيه الشريعة و العفة و الشرف) من هذا المنطلق فإن النساء اللواتي يردن الخروج إلى الفضاء العام يضطرن إلى إرتداء الحجاب لتجنب المضايقات و المعاكسات و التحرشات من طرف الرجال بل لطمأنة رجل العائلة (الزوج،الأخ، الابن) كذلك إن الشارع فضاء ذكوري في المجتمع الجزائري المهيكل من طرف الثقافة الأبوية التي تخصص المنزل للنساء و الشارع (البرا) للرجال يسمح للنساء الكبيرات في السن بالتحرك بسهولة و أريحية في الشارع من أجل التسوق أو زيارة الأقارب،الطبيب....في حين غالبا ما تكون الفئات خاصة العزباء مضطرة لأن تكون مرافقة من طرف الأم ،الجدة، أو الأخت المتزوجة الكبرى.....إذا ما أرادت الخروج،ما عدا ذلك فإن الشابة في الشارع ستكون مشبوهة و موضوع (الحديث) في حالة تكرار الخروج دون مرافقة أو هدف واضح( التعليم في السنوات الأخيرة العمل).

ينظر دائما  إلى المرأة في الشارع كموضوع جنس و ليس ككائن اجتماعي بشري....

لهذا فإن المرأة التي تخرج بحرية إلى الفضاء العام الرجولي الذكوري،هي إمرأة تتحدى النظام الأخلاقي للمجتمع و غالبا ما توصف بألفاظ سلبية مثلا ( سايبة) أو إمرأة بدون رقيب و لا حسيب هذا النوع من النساء في نظر الثقافة أو السلطة الأبوية و المجتمع الذكوري هن نساء حيث لا يلعب الرجل دوره كحامي للشرف و الحرمة العائلية و نساء هذه العائلة لا يمكن ان يكن محل ثقة للحفاظ على نقاء الدم الرجل الذي يتقدم لخطبتهن.

إن هذا التقسيم الجنسي للفضاءات يعود في الأساس إلى تحديد العلاقات الجنسية و اختصارها فقط في مؤسسة الزواج و داخل البيت(الفضاء الخاص) ،و هو يهدف إلى حماية نقاء الدم عبر استاد  المرأة لوظيفة التكاثر و حماية النسب و السلالة. لهذا فإن المرأة التي تقتحم الفضاء الرجولي (الشارع) هي إمرأة تفتن الرجال و تهدد بإخراج العلاقات الجنسية من فضائها الطبيعي و هو الزواج.

-أخلقت الشارع و إنعكاساته على الرابط الاجتماعي:

أدت ديناميكية أخلقة الشارع  و التي انطلقت منذ ثمانينات القرن الماضي،الى عودة قوية لظاهرة إرتداء الحجاب سواء في الفضاء الريفي أو المدني المدينة،كانت اولى تجليات ذلك في غلق كل الأماكن الفاسدة طبعا الموروث الاستعماري من مخامر و ما شابه ذلك .....

و ما يفسر ذلك عند الجزائريين أي (محاربة الفساد الأخلاقي و محاولة التركيز أثناء أخلقة الشارع على غلق المخامر) هو تمثلات الخمر لدى الفرد الجزائري إن تعاطي الخمر أو الكحول سيؤدي به الحال الى السكر.....و الإنحراف و الشخص السكير الذي يتعدى حدود الله و هو في حالة سكر،يمكنه ان يتعدى على باقي المحرمات الأخرى....خاصة المرأة التي أصبح حضورها في الفضاء الرجولي أمرا واقعيا لا مفر منه، المرأة هي موضوع حرمة و شرف،و يمكن للسكير أن يتعد على شرف الآخرين بحيث لا يمكن للرجل أن يطمئن لخروج نسائه الى شوارع ممتلئة بالسكيرين و المنحرفين....من هنا تأتي حاجة ملحة لمحاولة تطهير الشارع من كل مسببات الرذيلة خاصة محلات بيع الخمور.

منذ خروج المرأة الى و نزعة أخلقة الشارع في تزايد مستمر و أصبح من منظور إسلامي سياسي(الإسلام السياسي) فرض عين و واجب على كل مسلم غيور على شرفه....

الحالة الصراعية التي يعرفها الشارع و الرابط الاجتماعي عامة،يمكن تفسيره بتجذر هذه التمثلات للمرأة،و الواجب الديني و الشرف و الآخر في المجتمع الجزائري.و التي التقت مع التحولات البنائية الحادة و الأزمة الاقتصادية و الفوضى العمرانية ....

المحاضرة 3: العام و الخاص في المجتمعات العربية –الإسلامية:

أهداف المحاضرة:

-مناقشة التمثلات لمختلف الفضاءات في المدينة بإعتبارها مؤطر للتفاعلات و الممارسات و السلوكات اليومية للفرد و الجماعة،حيث ينسج الرابط الاجتماعي في كل من الفضاء العام و الفضاء الخاص فالعلاقات الأسرية العائلية تحمل الرابط الاجتماعي و توجهه و تؤطره  في الفضاء الخاص،فهو في الفضاءات العامة يتحدد و يؤطر بالتمثلات التي يحملها الفرد له(الفضاء العام).

-لا يمكن فهم الديناميكيات الاجتماعية دون دراسة الفضاءات العمرانية (المدينة) و العلاقة بين الخاص و العام.

مقدمة:

إن المدن العربية التقليدية تنتظم وفق نمطين مزدوجين ،منطقة خاصة مركزية حيث توجد الأنشطة الاقتصادية الهامة و أماكن السلطة و العبادة ،و توجد منطقة محيطة بالمركز و هي بمثابة المجال العام.في حين تمثل الأحياء السكنية المجال الخاص a.rymond . إن هذا التقسيم التوبوغرافي للمدينة الى مجال عام في المركز و الى خاص على الأطراف  هو في الواقع تقسيم وظيفي ،و ليس تقسيم مؤسس على مبدأ الملكية للمجالات (مجال عام أو فضاء عام ملك للدولة و مجال خاص  ملك للأفراد).

تقول الباحثة ''فرانسواز بوشنين'' (في نفس السياق ) في دراسة لها لبعض المدن المغربية أن الأحياء الشعبية  تظهر و كأنها المجال الخاص مقابل باقي المدينة التي تظهر و كأنها المجال العام ،حيث تعتقد هنا أن الأحياء الشعبية في المدن المغربية هي في معظمها أحياء يعود بنائها و تأسيسها الى المرحلة العثمانية و باقي المدينة هو المدينة الوطنية .....لكن ما هو شكل المجال العام في هذه المدن؟و هل تختلف كثيرا عن المجالات العامة الحديثة؟

ان معظم الباحثين و الدارسين للمدينة العربية الإسلامية التقليدية الذين ذكرناهم في موضع سابق يعتبرون المسجد هو المكان العام المركزي فيها و ذلك بالنظر الى اهميته في الحياة اليومية لسكانها الحياة السياسية الدينية الثقافية و الاجتماعية(لكن هنالك اشكال اخرى من المجالات يمكن اعتبارها عامة مادامت تتوفر فيها خاصية الاستعمال العام و الحر وفق شروط إنشائها و في هذا الصدد يذكر لنا ''فرانسوا بوقار''francois buggard المجالات التالية:

-الجامع الكبير مكان للعبادة و الاجتماعات، مؤسسة لتعليم القرآن و القانون الاسلامي، المدرسة.

-الحمامات العامة

-السوق:مكان للتجارة و التبادل الاقتصادي و الاجتماعي

-القلعة:مكان السلطة الدينية و السياسية

و قد لاحظ ان هذه المجالات تستعمل يأشكال مختلفة و من طرف جماعات متعددة

1-المدينة الكولونيالية la ville colonial:

كان لدخول الاستعمار الاوروبي الى البلدان العربية و المغاربية،أثر كبير على الحياة الاجتماعية الاقتصادية،السياسية و لكن أيضا تأثير كبير على عمران هذه التجمعات أو المجتمعات ،و لكن هذا التأثير لك يكن بنفس الشكل و الحدة بل كان متباينا من بلد الى آخر حسب اشكال التواجد الاوروبي فيه(حماية ،انتداب،استعمار) و هذا كان عاملا مهما في اختلاف درجة التاثير الكولونيالي على المناطق الحضرية في كل بلد.

لكن الكثير من الدارسين يؤكدون على ان دخول الاستعمار الاوروبي،كان بداية لدخول المدينة الغربية،بكل ما تحويه من اشكال عمرانية الى هذه البلدان و سنحاول في هذا العنصر ان نركز اكثر على خصائص المدينة الكولونيالية او الاستعمارية في الجزائر،لمعرفة اهم اشكال المجالات العامة التي استحدثها.

ا ناول ملاحظة هامة في هذا المجال هي التي قدمها''جيوديس كريستوف'' في في مقال حول عمران تونس،و القصبة في مؤتمر حول مدينة الجزائر'' اذ يقول ان الاحتلال الفرنسي في الجزائر قام بتدمير جزء كبير من الجزائر القديمة ،وقام  بتشييد بمحاذاتها مراكز و بايات جديدة وفق الخصائص الاوروبية'' بهدف تسهيل مراقبة السكان المحليين،ان مدينة القصبة لم تكن تسمح بذلك،لم تكن شوارعها الضيقة تسمح للآليات الحربية الاستعمارية بالتنقل و التغلغل بسهولة في الأحياء السكنية،و هذا ما دفع بالفرنسيين،الى تحويل ما كان يعرف بالأماكن العامة المركزية،داخل القصبة، الى ثكنات و كنائس،و عوض الكثير من شوارعها الضيقة باخرى واسعة،و ساحات واسعة مفتوحة،تلبي الإحتياجات الاستعمارية،الاقتصادية و الثقافية للفرنسيين...و الاوروبيين يمكن ان نخلص اذا الى ان المدينة الاوروبية تجسد ماديا،الثقافة الغربية في المجتمعات العربية و المغاربية ،بل أكثر من ذلك حاول الاستعمار ان يجعل المدن الكبرى بوابة و نرآة تعكس '' التفوق و المهارة الاوروبية على المجتمعات المستعمرة''

و هذا ما يفسرظهور مركزية جدية،تتميز بالشوارع و الساخات الواسعة و المباني الادارية....و السكنية المفتوحة و المطلة على هذه الشوارع و الساحات ،بذلك انتقلت المركزية الحضرية من المدينة التركية القديمة الى المدينة الكولونيالية العصرية اذ طوال الفترة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر ،و محاولاته المستمرة للقضاء و تدمير كل اشكال التنظيم الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي التي كانت قائمة، و محاولاته للقضاء على الهوية الجزائرية.....ادى الى تراجع كبير للمدينة العربية التقليدية و حلت بجانبها او مكانها مدينة مدينة لا تختلف كثيرا عن المدن الفرنسية.

ظهور أولى المجالات العامة الغربية في المجتمعات العربية،صاحب هذه الاشكال العمرانية الجديدة في المستعمرات الاوروبية،ظهور مجالات عامة حضرية مشابهة للتي توجد في الغرب.فبعدما كانت المدينة التقليدية تنتظم حول المسجد و السوق و قصر السلطة،أصبحت تنتظم حول الساحات العامة الواسعة و المباني الإدارية الكبرى في مركز المدينة الكولونيالية، و نظرا للتطور الكبير في عدد سكان الاوروبيين المقيمين في هذه المجتمعات،بسبب نمو الحركة الإستيطانية، فإنع من  البديهي أن تظهر أماكن تختص بالانسان أو الفرد الغربي و نمط حياته الغربية في المجتمعات المستعمرة،فظهرت المطاعم الحديثة،الحانات،مراكز التسوق العصرية، قاعات السينما،و قاعات الشاي......أصبح بعد ذلك التمييز التقليدي بين الفضاء أو المجال العام و المجال الخاص،أقل وضوحا و أقل قوة،خاصة امام التغير الكبير الذي مس البناءات السكنية للأهالي،حيث خصص الاستعمار بعض المشاريع السكنية لامتصاص غضب السكان الفقراء و دفعهم الى الولاء.

2-المدينة الوطنية:

تستعمل مصطلح المدينة الوطنية،للإشارة الى المدن و الأشكال العمرانية المبنية بعد استقلال الدول العربية،من طرف الدولة الوطنية الجديدة .إن أولى ملاحظة نفرض نفسها على الباحث و الدارس لهذه المدن،هي أن الدولة الوطنية لم تحدث لأي قطيعة مع النموذج العمراني الاستعماري،بل استمرت في توسيعه وفق ادواته القانونية و التقنية فإذا نظرنا مثلا الى أدوات التعمير في الجزائر....نجد انها نفس ادوات المتبعة منذ سنة 1958 من طرف الاستعمار الفرنسي الى غاية 1990.

نعتقد ان الوظعية لا تختلف كثيرا عن باقي الدول العربية،فخروجها منهارة اقتصاديا،ثقافيا،اجتماعيا و حضاريا،جعلها غير قادرة على البحث في تطوير و تحديث الاشكال الاصلية لمدنها،خاصة أمام تزايد الطلب على السكن و انتشار الفقر و البطالة،لكن ذلك لا ينفي ايضا ان بعض الدول،التي لم تدمر اشكالها العمرانية التقليدية بشكل كبير،حافظت على مدنها القديمة مثل:تونس ،مصر،سوريا....لكن

المدن التي استحدثتها طانت وفق النمط العمراني الغربي،لقد لجأت الدول العربية الى استيراد المدينة الغربية،و تجسيدها بأشكال مختلفة،و لكن محاولات بعض الأنظمة السياسية،في هذه البلدان عصرنة مجتمعاتها،عن طريق تطوير العمران و عصرنته،دون رد الاعتبار لخصائصها السوسيو-ثقافية،ادى الى احداث قطيعة بين المجال المبني المعيشي،و الثقافة المحلية.

أن المدن المبنية على الهندسة المعمارية الوظيفية في تصميم البنايات،مما ادى الى

خلق تجمعات سكنية كبرى بدون هوية ثقافية و اجتماعية واضحة و محددة.... انتجت علاقة منفصلة بين الافراد و المجال السكني الذي يعيش فيه......

-القيم الاجتماعية في المجتمع الحضري الجزائري:

1-1      القيم و المعايير:

المعايير هي مجموعة قواعد يسير بمقتضاها فعل و سلوك أي فرد في المجتمع،حيث تفرض عليهم بشكل رسمي على شاكلة قواعد قانونية و نصوص تنظيمية،و هي الشكل الغائب في المجتمعات الحديثة أو قواعد خفية غير معلنة رمزية و غير مكتوبة،يكتسبها الأفراد خللا مسار تنشئتهم الاجتماعية حيث تحمل أهمية  بالغة نظرا للأثر الكبير الذي تمارسه  على على سلوكيات الفرد و علاقتهم داخل الجماعة أو المجتمع الذي يعيشون فيه.

وعند مخالفتهم المعايير القائمة في مجتمعاتهم ،فإنهم بذلك يعرضون أنفسهم إلى عقوبات مادية و معنوية،تحددها طبيعة المعيار المخترق أو المعتدى عليه،أما القيم الاجتماعية فهي المثل الجماعية القادرة على توجيه سلوك الأفراد، وعند إنتظام هذه القيم الحاملة لنظرة معين للعالم تعطي معاني للأفعال و السلوكات بل تفرض نفسها على أفراد المجتمع حسب رأي '' دوركايم'' و على الرغم من التجريدية التي تميز القيم الاجتماعية،إلا أن لها تأثير هام و قوي على الواقع الاجتماعي المعاش ،فهي التي تعطي الشرعية الاجتماعية للمعايير السائدة في المجتمع.

1-2      تعدد النظم القيمية:

ان نسبية القيم الاجتماعية أمر متفق عليه،لكن ذلك لا يعني أنها تختفي بسرعة في المجتمعات،بل يستمر وجودها رغم ظهور قيم أخرى تختلف عنها ،و هذا ما يجعل المجتمع تسوده أنظمة قيمية منها القديمة التي نشأت و تطورت مع الثقافة الأصلية للمجتمع،و منها أنظمة قيمية حديثة و جديدة تشكلت غالبا عن طريق قدوم جماعات عرقية أو ثقافية مختلفة إلى المجتمع أو عن طريق الإحتكاك الثقافي بمجتمعات أخرى سواء عن طريق الاستعمار كما حدث في القرون الماضية،أو عن طريق و سائل الاتصال الحديثة كالتلفزيون،الأنترنات،المجلات.....و بهذا الطرق تشكلت عدة أنظمة قيمية داخل المجتمع الواحد،قد تكون متعايشة متكاملة،أو تكون متصارعة متناقضة قد تؤدي بالمجتمعات إلى التفكك،و إذا أجرينا مقارنة بين المجتمعات الريفية مع المجتمعات الحديثة،فإننا نجد  المجتمعات الريفية بصفة عامة تتميز بنظام قيمي واحد و موحد يوصف بالتقليدي ،أما المجتمعات الحديثة أو الحضرية و لكونها معرضة دائما إلى عوامل التغير الاجتماعي المتسارع،بفعل استقطابها الجماعات العرقية و الثقافية المختلفة .و بإعتبارها الأكثر تقدما تكنولوجيا فإن ذلك يجعلها مركزا لتداخل و تمازج القيم الاجتماعية المختلفة،لأن كل جماعة تهاجر إليها تنقل معها نظامها القيمي و تحافظ على استمراره و ينتشر هذا النموذج خاصة في المجتمعات الأمريكية.

3-1 للفرد إمكانية الاختيار بين النظم القيمية المختلفة:

بسبب تعدد النظم القيمية في أغلب المجتمعات الإنسانية،فإن سلوك الأفراد ليس دائما محددا لأن الفرد يستطيع الإختيار بين النظم القيمية السائدة في مجتمعه،و ذلك حسب ميولاته النفسية و نشأته الاجتماعية،بالإضافة إلى أن الإبتعاد عن بعض المعايير أو بالأحرى التعدي عليها و تجاوزها لا يعاقب عليه الفرد.

لكن في المقابل تبقى القيم السلبية و القيم الإيجابية أهم النماذج الغالبية و السائدة و السلوكات الاجتماعية لا تحظى بالقبول إلا إذا كانت إيجابية،و أي ابتعاد عنها،إنما يعتبر إنحرافا و خروجا عن المألوف أو عن القواعد المتفق عليها و بالتالي فإن الفرد رغم حريته في الإختيار بين النظم القيمية الفرعية ،إلا أنه بيقى محصورا بين ما هو إيجابي و ما هو سلبي لأن حتى النظم الفردية تمتلك معايير تبين و توضح الحدود الفاصلة بين القبول و  المرفوض اجتماعيا.

2-القيم الاجتماعية في الأوساط الحضرية الجزائرية:

من الصعب نظريا و منهجيا أو تطبيقيا التطرق إلى موضوع القيم الاجتماعية في المدينة الجزائرية،لأن ذلك يستلزم و يتطلب البحث عن الأنظمة القيمية السائدة فيها و تقسيمها و بيان أو تبيان و إظهار الحدود الفاصلة بين كل واحدة عن الأخرى.

إن دراسة القيم وفق هذه المقاربة فيه خطر منهجي و نظري كبير،لأنه يمكن لأن يؤدي بنا إلى وضع إيجاد حدود إعتباطية بين أنظمة لا تقبل التقسيم بالضرورة و بتعبير آخر نقول إن نقول إن الأنظمة القيمية الاجتماعية التي أخذت شكلها الحالي من مواقف الكثير من الباحثين(قيم تقليدية،عصرية،قيم غربية،قيم إسلامية)تتداخل و تتفاعل فيما بينها و من الصعب أو من غير المشروع أن نحصر نظاما قيميا معين في فئة اجتماعية محددة،و نستثني منه فئات أخرى،إنه من الصعب القول بأن هذا يحمل قيما ريفية تقليدية،وذلك يحمل قيما مدنية عصرية حضرية،لأن ذلك قد ينظر إليه على أنه حكم قيمي لا يستند إلى حجج علمية بقدر ما يستند و يدعم مواقف و توجيهات إيديولوجية و سياسية لهذه الأسباب نود أن ننبه القارئ إلى أن التقسيم في هذا العنصر للنظم القيمية في المدن الجزائرية إلى ثنائيين متناقضين: الريفية-الحضرية إنما هو تقسيم فرضته مبررات و أسباب منهجية بحثية فقط.هدفنا من خلاله دراسة كل نظام على حدا بشكل دقيق و عميق و نحاول من خلال هذا التقسيم أيضا أن نبين كيفية مساهمة القيم الاجتماعية في تأطير و توجيه السلوك الفردي و الجماعي.

و لكن هذا التقسيم المنهجي لا يعني إقصاء و إخفاء العلاقة التبادلية و التفاعلية و التداخل الموجود عند كل فرد و جماعة،لهذه النظم بل يسعى إلى عرض خصائص كل نظام بشكل قد يساعد على فهم التعقيدات الموجودة في السلوك و الممارسات الاجتماعية في الفضاآت أو المجالات العامة.

2-1 القيم الاجتماعية الريفية:

السؤال المطروح في بداية هذا العنصر هو:هل من المشروع أن نتحدث عن قيم ريفية داخل المدينة؟؟في ظل الفكرة السائدة (عند الكثير من الباحثين في علم الاجتماع الحضري) و التي تقول ''أن المدينة تهيمن على الريف،و أن عملية التحضر قد مست القرية مثل المدينة بسبب التطور الكبير في وسائل النقل ،و الاتصال.

نعتقد أن مشروعية هذا التساؤل أو الطرح هو وجود القيم الريفية في المدينة الجزائرية تستند إلى الكثير من الحقائق الأمبريقية و العلمية،أن نظرة بسيطة إلى تطور سكان المدن الجزائرية خلال الثلاثين سنة الماضية،لا تدفعنا فحب إلى الإقرار بوجود القيم الريفية في المدينة،و لكن ربما تدفعنا إلى إعادة النظر في إستعمالنا لمفهوم'' المجتمع الحضري الجزائري'' أو على الأقل تفرض علينا التحديد الدقيق لما نقده بهذا المفهوم.

تشير الاحصائيات إلى أن أكثر من 25 بالمئة من سكان الجزائر لا تتعدى مدة وجودهم في المدينة أكثر من 50 سنة،و من بينهم 20 في المئة لا تزيد إقامتهم في المدينة 40 سنة كما كشفت لنا هذه الأرقام،عن نسبة زيادة غير طبيعية لسكان المدن،إذ تضاعف عددهم 8 مرات في ظرف لا يتجاوز 43 سنة،و نعود هذه الزيادة إلى النزوح الريفي الكبير الذي عرفته الجزائر خلال ثلاثة مراحل أساسية:بعد الاستقلال مباشرة لوجود احتياطي سكني كبير خلفه المعمرون،ثم في مرحلة التصنيع خلال السبعينات،و أخيرا أثناء الأزمة الأمنية في التسعينات

يمكننا أن نخلص إذا إلى أن المدينة الجزائرية تتكون من غالية سكان ذوي أصول ريفية و لكن ماذا تعني هذه الحقيقة بالنسبة للقيم؟؟

إن النمط المعماري المنتهج في بناء المدينة الجزائرية بعد الاستقلال (الهندسة الوطيفية) أدت إلى انتاج مدن تفتقد الهوية الاجتماعية و الثقافي إذ هي قادرة على خلق روابط اجتماعية بين سكانها و هي غير قادرة على انتاج و خلق و توفير جو يسمح بانتاج ثقافة حضرية ستميز سكانها عن الآخرين ،و أمام تراكم المشكلات المختلفة في هذه المدن (نقص الورافق الاجتماعية،نقص التهيئة،العنف،المخدرات ،التطرف) تحولت إلى تجمعات سكانية ليس بإمكانها إدماج السكان الجدد القادمين إليها من الأرياف أمام تجمعات سكنية دون هوية ثقافية....و حضارية.و هنا نطرح سؤال هل يمكن للعدد الهائل من الوافدين من الأرياف أن يتعلموا و يكتسبوا نمط المعيشة الخاص بالمدن؟ أو بالأحرى هل بإمكان الريفي أن يتخلى عن القيم الاجتماعية التي أتى بها من الريف،إلى وسط تسوده الفوضى العمرانية و الاجتماعية المتعددة الجوانب؟؟

الاحصائيات عادة تميز سكان المدن و سكان الريف اعتمادا على معايير ديموغرافية و جغرافية بحثة ،نعتقد أن علم الاجتماع لا يستطيع و لا يحب أن يكتفي بالمعايير لكي يميز الريفي عن الحضري،ليس مجرد الانتقال من الريف للسكن في المدينة،يعني تغير القيم التي يحملها إن عملية'' التمدن'' ليست كعملية ''التحضر'' الفرد المتنقل:فإذا كانت عملية التحضر تعتمد على مؤشرات مادية و عمرانية فإن'' التمدن'' عملية تحتاج إلى فترة زمنية طويلة كي تظهر آثارها على الحياة الاجتماعية في المدينة،لأنها سيرورة من إكتساب القيم الاجتماعية و نمط خاص بالمدينة فقط....و مؤشراتها يمكن أن تظهر سواء على المستوي الفردي و سلوكاتهم و ممارساتهم أو على مستوى العلاقات و الروابط الاجتماعية التي تميز سكان المدينة،فالتمدن إذا يحتاج إلى''مدينة قادرة على خلق الأسلوب في العيش من خلال الهوية الاجتماعية و الثقافية التي تتميز بها''

إن الإقامة لمدة لا تتجاوز على الأكثر أربعون سنة في مدينة تسودها  الفوضى المتعددة الأبعاد و الفاقدة إلى هوية اجتماعية و ثقافية ،و لكن في مجتمع تعطلت فيه المؤسسات الاجتماعية المنتجة للهوية.

إنها غير كافية لأن يتخلى القادمون الجدد عن قيمهم و أن يكتسبوا نمط المعيشة المديني الكثير من الباحثين أشاروا إلى أن''القادمون الجدد إلى المدينة،ينتقلون إليها حاملين معهم أنظمتهم القيمية،و المعيارية و أشكالهم التضامنية،و النتيجة هي أنه ليست المدينة من يدمج القادمين إليها،و لكن القادمين الجدد هم من يعطي المدينة الصورة التي تتوافق و قيمهم و ذهنياتهم.

يمكن أن نلاحظ وجود القيم الريفية في المدينة الجزائرية تحت أشكال مختلفة،تربية مثلا بعض الحيوانات في التجمعات  السكنية،تحويل المجالات العامة المجاورة للمساكن إلى حدائق شخصية،أنماط اللباس التقليدي،أنماط السلوك.

لقد خلق إنتقال القيم الريفية إلى المدينة''لاتجانس واضح بين النظم القيمية و المعيارية الحضرية،وأعاق كل العمليات الاندماج الحضري'' و ذلك حسب تعبير الباحث الاجتماعي ''إشبودان لعربي'' و أدى كذلك إلى تشكل المدينة في شكل متقطع مجاليا،بسبب تظافر العوامل الأخرى(التهميش،الفقر،البطالة).

الحقيقة الهامة التي تمثلها استمرار القيم الريفية  عند سكان المدينة،هي عدم قدرة هذه الأخيرة على التأثير بشكل إيجابي على القادمين الجدد للمدينة،و ذلك لإدماجهم اجتماعيا و ثقافيا،بشكل يحميها من التأثير السلبي عليها،و من تأثيرها السلبي على أولائك القادمون الجدد،و تظهر أشكال التأثير السلبي المتبادل في في المشكلات اليومية التي جعلت الحياة في المدينة مرادفا'' للبؤس و الميزيرية ''و الإقصاء و كل أشكال الإخفاق الاجتماعي و الإحباط النفسي.

2-2 .القيم الاجتماعية المدينية:

بالرغم من حداثة المجتمع الحضري في الجزائر،و بالرغم من أزمة الهوية الحضرية و الثقافية التي تعيشها أغلب المدن و التجمعات السكنية الكبرى،إلا أن هذا لا يمنعنا من التساؤل عما إذا كانت هنالك فعلا قيم اجتماعية مدينية،تختلف بشكل واضح عن القيم الاجتماعية الريفية.

إن الاختلاط الطويل بين المدينين القدامى، و بين المدينيين الجدد يجعل من الصعب أن نميز بين تلك القيم الريفية التي قلنا أنها مسيطرة في الفترة الحالية،و بين ما يمكن اعتباره تقاليد حضرية أنتجت قيما مدينية،كانت عاملا مهما في إنتاج التجانس و التكامل الاجتماعي الحضري من جهة،و شكلت مصدر وحدة ضد كافة الأخطار الخارجية من جهة أخرى،لهذه الأسباب فإن الحديث عن القيم المدينية سيكون حديثا عن خطاب مليء بالحنين إلى الماضي أيضا حول الحياة الاجتماعية في الأحياء الشعبية مثلا في القصبة أو الحومة هذه الأخيرة كانت النموذج المثالي للإندماج الحضري حسب''الباحث الاجتماعي إشبودان لعربي''

نظرا لما كانت تتمتع به من خصائص جعلتها وحدة مجالية و اجتماعية للإندماج الحضري عند الكثير من الدارسين و الباحثين.تمثل الحومة إحدى أهم خصائص التنظيم الاجتماعي و المجالي للمدينة الجزائرية حتى فترة ما بعد الإستقلال،و لكن الأزمات المختلفة التي عرغتها الجزائر و المدن الجزائرية أدت إلى اندثار ''الحومة''.

تكمن أهمية ''الحومة'' في كونها نواة الاندماج الحضري من خلال تركز النشاطات الاجتماعية فيها ،و التنشئة الاجتماعية التي تساعد في تأسيسها لقد كانت بمثابة المؤسسة الغير رسمية المكلفة بإنتاج و إعادة إنتاج القيم الاجتماعية التي تضمن الاندماج الاجتماعي في المدينة و تقول الباحثة''نسيمة دريس'' أنها كانت معقلا محليا تسوده قيم التعايش التضامن،التسامح،اتعاون....لذلك شكلت خلال فترة الاستعمار الفرنسي وحدة للصمود و المقاومة ......................

2-3.القيم الاجتماعية  الحديثة(الغربية):

هنالك الكثير من المؤشرات التي تدل على انتشار القيم الحديثة القادمة من الغرب،ليس فقط في المدينة الجزائرية،و لكن في الريف أيضا،إن طهور النزعة الفردانية أو التوجه إليها(النزعة الفردانية) من خلال البحث عن الاستقلالية بالمنزل بعد الزواج،و تغيير أنماط العلاقات الاجتماعية،وظهور أشكال جديدة من الزواج القائم على الارتباط قبل عقد القران ،إلى جانب ظهور أنماط جديدة من الموسيقى و اللباس....إن هذه المؤشرات تنبأ بوجود حالة من التغير و التحرك في المنظومة القيمية للمجتمع الجزائري.و تظهر كذلك أن القيم التقليدية لم تعد تؤثر بشكل كبير في طرق تفكير و أنماط سلوك الكثير من الفئات الاجتماعية.

و لكن التغير القيمي لا يقتصر فقط على هذه المؤشرات،بل يلاحظ في المدن الجزائرية إن معظم ما ينبأ بوجود تغير قيمي،هو تنمي روح المواطنة تحت  أشكال مختلفة مثلا:جمعيات الدفاع عن الأحياء القديمة،جمعيات الأحياء/الحركة الجمعوية....هذا إلى جانب ظهور أشكال جديدة من العلاقة بين السلطة و ساكن المدينة و تطورت أشكال التجند و التفاوض.....

لكن يلاحظ أن القيم الجديدة تنتشر أكثر في الأحياء الغنية و المتوسطة،و التي تسكنها الإطارات العليا في الدولة و كلما انتقلنا أكثر في الأحياء الشعبية و الفقيرة كلما قلت درجة وجودها و انتشارها،و كلما لاحظنا انتشار أكبر للقيم التقليدية الدينية.

إن الأسباب الأساسية لظهور هذه القيم بشكل متسارع هو ظعف منظومة القيم التقليدية التي لم تستطع مقاومة تأثير العولمة بكل أشكالها من جهة و ضعف عملية انتقال القيم عبر المدرسة،المجال العام،الأسرة من الأجيال القديمة إلى الأجيال الجديدة من جهة أخرى،من هنا بقى المجتمع الجزائري عرضة لتأثير القنوات الإعلامية ما يمكن أن يؤدي إلى تزايد حالة عدم التجانس القيمي التي كانت تعاني منها المدينة(بين القيم المدينية و القيم الريفية) و التي يمكن أن تقف عائقا كبيرا أمام عملية الاندماج الحضري و يعتقد أن حالة الضعف و غياب المعالم الاجتماعية يمكن أن تؤدي إلى صراع الاجتماعي بين الأجيال من جهة و إلى الصراع الإيديولوجي بين حاملي القيم المتناقضة و سيكون المجال العام الحضري ساحة لهذا الصراع الرمزي و المادي بين التيارات المختلفة في المجتمع.للهيمنة و السيطرة عليه و ما التصادم الذي عرفته الجزائر مع نهاية الثمانينات  إلا دليلا على خطورة هذا اللاتجانس القيمي من جهة،و على إمكانية تحول المدينة(خاصة المجالات العامة فيها) إلى ساحات للعنف و المواجهة بين جماعات اجتماعية تتصادم و تتعارض مصالحها و اتجاهاتها الإيديولوجية.

3-القيم الاجتماعية بين الانحلال و إعادة التأسيس:

أشرنا في ما سبق الى ان المدينة الجزائرية الحالية تعرف أشكالا متعددة من الأنظمة القيمية و قد نتج هذا الإختلاف و التغير عن الديناميكية التي مست جميع الأبنية الاجتماعية في الجزائر ظهرت فيها قيما اجتماعية جديدة بعضها يشبه القيم السائدة في المجتمعات المشرقيةمثلا:مصر،السعودية.....و بعضها الآخر يشبه القيم الغربية:أمريكا،أوروبا..... و قد نتج عن هذا الإختلاف و اللاتجانس صراعا ماديا و رمزي متعدد الجوانب،كان أهمه الذي ظهر على شاكلة عنف سياسي الذي بدأ منذ التسعينات و العنف الحضري الذي ما فتئ من التطور و الإنتشار الى يومنا هذا.....

يمكننا ان نخلص اذا الى ان المجتمع الجزائري عرف(غزوا قيميا من الشرق و الغرب أدى الى صراع ايديولوجي و فكري بين ما يسميه كل من علي الكنز و عبد الناصر جابي ''بمجتمع التهميش و العصرنة'' و يفسر بعض الباجثين عدم تعايش هذين النظامين القيميين  لكونهما ظهرا في فترة عرفت فيها الجزائر و مؤسساتها المنتجة للهوية و القيم تعطلا و إفلاسا اجتماعيا و سياسيا فقدان العلاقة بين الحاكم و المحكوم بسبب التراكم الذي عرفه المجتمع منذ الاستقلال و يترجم هذا الغزو القيمي وجود حالة من فقدان الهوية الفردية و الجماعية ،و المعالم الاجتماعية لدى الكثير من الفئات الاجتماعية نتج كذلك عن هذا الواقع الجديد دينامكيتين متناقضتين في المجتمع.

-ديناميكية التغريب من جهة و ديناميكية اخرى تقوم على نشر القيم و التعاليم السلفية هذه الديناميكية كانت تعمل في وسط اجتماعي كان يعاني أصلا من صراع رمزي بين القيم الريفية و القيم المدينية و السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو اثر هذا الصراع بين الديناميكيتين على المدينة الجزائرية؟ و كيف ساهمت هذه الأخيرة في تفاقم الصراع القيمي الناتج عن هذه الديناميكيتين؟؟

المدينة حسب رويرت بارك هي ''فضاء للتوترات الاجتماعية'' لأنها تعمل على إعادة تشكيل و تحويل الهويات الاجتماعية السائدة فيها.

بمعنى أن كون المدينة مكان لإستقطاب الاقتصادي و الاختلاط الثقافي و الاجتماعي و الإيديولوجي و كونها معرضة الى التغير الاجتماعي السريع بسبب وسائل الاتصال و التواصل الموجودة فيها جعلها تمارس تأثيرا كبيرا على القيم و الثقافات الموجودة فيها و بذلك تتحول المدينة ببعدها الزماني و المكاني،غلى موضوع للصراع بين مختلف الفاعلين لقيم و إيديولوجيات مختلفة و ذلك قصد امتلاك و احتلال اهم الفضاآت الاستراتيجية التي تمكنهم من فرض منطقهم الخاص و نشر قيمهم و أفكارهم.

انطلاقا من هذه الفكرة يمكن ان نفسر استراتيجيات مختلف الجماعات في المدينة فمثلا الجماعات الاسلامية في سعيها للوصول الى السلطة في الثمانينات وظفت المسجد كمركز للتعبئة الايديولوجية و القيمية،خاصة في الأحياء الهامشية و الفقيرة كما عملت على إحاطة المدن الجزائرية بشبكة من المساجد و قاعات الصلاة و لكن تأسيس النظام الجديد استلزم في نظر حامليه محاربة النظام القائم......و ظهر ذلك في اشكال العنف السياسي و حتى المسلح الذي ساد المجالات العامة و الخاصة بداية من التسعينات بين( السلطة و المجتمع)

الذي يمثل الغرب و الكفر و بين الجماعات الاسلامية التي كان ينظر اليها على أنها الخطر الذي يهدد قيم الدولة و الجمهورية.

هذا  اذا الصراع بين الأنظمة القيمية التي دخلت إلى المجتمع فهل الوضعية او العلاقة هي ذاتها عند القيم الريفية و القيم المدينية؟هل العلاقة بينهما صراعية الى درجة التصادم العنيف؟ام أن اختلاف شكل الصراع بينهما اخفى العلاقة الصراعية بينهما و أعطاها أشكالا رمزية أكثر منها مادية؟؟

يقول ''هالبواتش''''halbwachs'' (عندما تشغل جماعة اجتماعية فضاء مكاني ما ،فانها تحوله الى الصورة التي تتوافق مع معتقداتهم،قيمهم ،و لكن في نفس الوقت ترضخ الجماعة لتأثير العناصر المادية التي تقاوم  التغيير في ذلك المكان)بتعبير آخر عندما تنتقل جماعة ما للعيش في مكان آخر قانها تأثر فيه بقدر استطاعتها ،و لكنها في نفس الوقت تتأثر ببعض المظاهر التي يفرضها .

هذا ما يتوافق مع ملاحظات ''قريد''''grid'' حيث يقول ان القادمون الجدد الى المدينة( من الريف) يرحلون الى المدينة مع عائلاتهم حاملين معهم نظامهم القيمي و المعياري و اشكال تضامنهم و النتيجة هي ليست المدينة  من يدمج القادمين الجدد و لكن هم من ينمطون المدينة وفق الصورة التي تتوافق معهم.

ان هذه الملاحظة تبين لنا و بقوة عدم قدرة المدينة الجزائرية على التأثير بشكل إيجابي في القادمين الجدد إليها،وهذا يعود حسب ما أشرنا إليه سابقا الى إفتقارها إلى هوية خاصة تستطيع من خلالها أن تقدم نموذجا لهؤلاء الوافدين إليها كما أن فقدان الهوية كان إحدى نتائج الهندسة الوظيفية المتبعة في تصميم معظم المشاريع الحضرية منذ الاستقلال،بحيث أدت الى القضاء على الأشكال التقليدية للتنظيم الحضري التي كانت تعمل على خلق الاندماج و الانسجام الاجتماعي بين سكان المدن.

المجال العام كمساحة للروابط الاجتماعية

لا نجد مفهوم المجال العام في الخطاب الاجتماعي الجزائري في الإشارة و التعبير على الأماكن العامة,الساحات ،الشوارع،الحدائق أو الإشارة إلى كل ما هو علم و ملك للدولة و لكن حاولت بعض الدراسات القليلة أن تبين أهم التسميات التي تطلق اجتماعيا على المجال العام و في هذا الإطار نجد الباحثة ''نسيمة دريس'' في الدراسة التي أشرنا اليها فيما مضى تذكر لنا أهم التعابير المتداولة في الخطاب الاجتماعي و هي:

1-البرا''berra'' تستعمل في الخطابات الشعبية الجزائرية للإشارة إلى كل المجالات و الأماكن التي تقع خارج المنزل ،أي أن هذا التعبير يرسم الحدود الفاصلة بين المجال الخاص (الداخل) و المجال العام و الخارجي (البرا)

و تميز الباحثة من خلال تحليل ميكرو سوسيولوجي للممارسات و الاستعمالات بين نوعين من (البرا) حيث ميزت بين (برا قوي) و (برا ضعيف)

و لكن يجب أن نشير إلى أن هذا التمييز ليس هو نفسه الذي قدمه''جون ريمي،و ليليان فوبي'' حول المجال العام القوي و المجال العام الضعيف،فإذا كان ''ريمي و فوبي'' يعتمدان على شكل المجال العام نفسه بوصفه بالقوي أو الضعيف،فإن ''نسيمة دريس'' تتخذ من الممارسات الاجتماعية و السلوكات المختلفة التي تلاحظ في المجال العام ''البرا'' بأنه قوي أو ضعيف ,

إن البرا القوي هو الذي يبعد أكثر من الداخل لأنه لا تحترم فيه المعايير و القيم الاجتماعية كما تحترم في الداخل أي أن الرقابة الاجتماعية ضعيفة في هذا البرا البعيد جدا من الداخل،يمكن أن نجد هذا النوع من البرا في مركز المدينة،بإعتباره المكان الذي يخضع بالدرجو الأولى للضبط الاجتماعي الرسمي (الدولة) أما البرا الضعيف فهو ذلك  المجال المحاذي مباشرة للمجال الخاص(الداخل) إن هذا المجال يخضع للرقابة الاجتماعية غير رسمية و صارمة يقوم بها سكان الحي لذلك يلاحظ أن الأفراد فيها يسعون  فيها قدر المستطاع إظهار احترام المعايير والقيم الاجتماعية المشتركة داخل الحي،نجد في هذه المقاربة توافقا بين الباحثة'' نسيمة دريس'' و '' فرونسواز بوشنين'' حيث تأكد  هذه الأخيرة  على أن المجال العام في المدن المغاربية يأخذ شكلا هندسيا ينطلق من المجال العام في مركز المدينة و يتدرج حتى يختفي قبل الوصول إلى المجال الخاص أو الحي.

نخلص اذا إلى التعبير الاجتماعي ''البرا'' يعبر بدوره عن نوع معين من الضبط الاجتماعي الممارس على المجال من جهة و من جهة أخرى يعبر عن السلوكات و الممارسات الجماعية و الفردية التي يمكن ملاحظتها.

2-البايلك ''beylek'': و هو نعبير آخر يستعمل للإشارة به إلى أملاك التابعة للدولة إذ هو حسب ''نسيمة دريس'' يرسم الحدود الفاصلة بين الأملاك الخاصة و الأملاك التابعة للدولة،و نلاحظ أن هذا المبدأفي التقسيم يقتير من المفهوم الحديث للمجال العام و الذي أشرنا إليه سابقا فهو مؤسس على مبدأ نوعية الملكية للتمييز بين ما هو ملك خاص و ما هو مللك عام للدولة,

لكن يجب أن نشير إلى الأصل التاريخي لهذا التعبير و عن الأسباب التي جعلته يستمر في المخيال الرمزي الاجتماعي تقول ''تسيمة دريس'' أن الجزائر عرفت أشكالا متعددة من البايلك في جميع مراحلها التاريخية فهو من بقايا الذاكرة الاجتماعية للتواجد العثماني في الجزائر،و سبب إستمراره هو كون معظم الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم المجتمع الجزائري سعت دوما إلى إنتاج بايلك خاص بها فمرت الجزائر على البايلك العثماني،ثم البايلك الفرنسي،ثم البايلك الوطني بعد الاستقلال,

و يوافقها في ذلك المؤرخ الفرنسي ''جيلبار ماينيي ،Gilbert maynier'' عندما أشار إلى أن النظام السياسي بعد الاستقلال عمل على إنشاء بايلك جديد خاص به.

إن التشابه الذي ميز ممارسات الأنظمة السياسية التي حكمت الجزائر منذ العهد العثماني إلى الآن،هو الذي أدى إلى إعادة إنتاج البايلك في كل المراحل التاريخية كان المجتمع ينظر إلى البايلك على أنه ملك للأجنبي الذي لم يعمل على توفير العدالة و الحرية بقدر ما عمل على إستغلال ثروات الجزائريين ,

3-الزنقة: تقول الباحثة ''نسيمة دريس'' بأن هذا التعبير يستعمل في الخطاب الشعبي الجزائري للإشارة إلى الشارع و لكنه يعبر في نفس الوقت عن تمثيليات و تصورات اجتماعية غنية عن المجال العام إن الزنقة تصور الشارع على أنه مجال لكل الأخطار المادية و المعنوية و الفساد الأخلاقي و عدم احترام المعايير لهذا السبب نلاحظ أن هذا التعبير يحمل نوعا من النظرة السلبية إلى الممارسات و السلوكات و إلى المجال العام الذي يمكن أن يكون ميدانا لها,

إذا الزنقة هي المجال الذي لا تحترم فيه المعايير و القيم الاجتماعية،فهي  إذا ليست كل المجالات العامة و لكن فقط تلك(البرا) الذي لا توجد فيه الخصائص  المذكورة سابقا، يمكن أن نستخلص إذا إلى أن الزنقة يمكن أن تكون المجال الثانوي الذي لا تحترم فيه المعايير الاجتماعية سواء بسبب موقعه داخل المدينة،أو بسبب شكله الهندسي,