المحاضرة رقم 01 في مقياس القانون الاقتصادي العام

السنة الثالثة ليسانس قانون عام (السداسي السادس)

 

الدكتور لكحل صالح

كلية الحقوق والعلوم السياسية

 

عنوان المحاضرة

الحرية الاقتصادية في القانون الاقتصادي الجزائري

تعتبر حرية التجارة والصناعة من أهم الحريات ذات الصّـلة بالجانب المادي للفرد، أي من بين الحريات المتعلقة بنشاط شخصية الفرد. ويقصد بها حرية مباشرة الفرد للنشاطات التجارية والصناعية وفقا للمقولة المشهورة (دعه يعمل دعه يمر) Laisser faire laisser passer .

يرجع نشأة حرية التجارة والصناعة إلى الثورة الفرنسية، غير أن إعلان الحقوق لسنة 1789 لم يفصح صراحة بالحرية الاقتصادية كما كان الأمر بالنسبة لحرية التعبير والحرية الفردية. فالاعتراف بالحرية الاقتصادية جاء بصفة ضمنية باعتبارها مظهرًا من مظاهر الحرية بصفة عامة للمواطن.

جُسدّ بعد ذلك مبدأ حرية التجارة والصناعة في فرنسا بموجب قوانين 2-17 مارس سنة 1791 المعروف باسم مرسوم آلارد Décret d’Allardes، الذي اعتبر خطوة أولى لتكريس اللّيبرالية الاقتصادية بمنحه لكل فرد الحرية في ممارسة أيّة مهنة أو حرفة يراها مناسبة له، بشرط أن يدفع ضريبة مقابل ذلك.

لقد عرفت الحرية الاقتصادية كذلك في الجزائر تجربة تباينت فيها القواعد القانونية حسب النظام الاقتصادي الذي طبع كل مرحلة، انطلاقا من مرحلة رفض وتهميش هذه الحرية الاقتصادية وصولاً إلى مرحلة تكريسها في مختلف النصوص القانونية التي صدرت في هذا الشأن، بل وحتى على مستوى الدستور (المطلب الأول) لتظهر توازيا مع ذلك البوادر الهامّة للانفتاح الاقتصادي والتي تعتبر من الركائز الأساسية للاتّجاه نحو اقتصاد السوق (المطلب الثاني).                                                

المطلب الأول

تطوّر الحرية الاقتصادية

                 

عرف مبدأ حرية التجارة والصناعة في القانون الجزائري مرحلتين. فأما المرحلة الأولى بدأت مباشرة بعد خروج المستعمر الفرنسي من الجزائر. وتميّزت بالسّيطرة الكلّية للدولة على الاقتصاد الوطني، أي احتكار الدولة لمنطقة النشاطات الاقتصادية، نظرًا لتبنّي النهج الاشتراكي الذي كان قائمًا على احتكار الدولة لوسائل الانتاج والاعتماد على التخطيط المركزي لتنظيم الاقتصاد. فتلك المرحلة اتّسمت تلك المرحلة برفض مبدأ الحرية الاقتصادية (الفرع الأول)، في حين تميّزت المرحلة الثانية انطلاقا من الثمانينات بالتراجع التدريجي للدولة عن الأساليب التقليدية لتسيير الاقتصاد والسّماح للقطاع الخاص بالتدخل في النشاط الاقتصادي الذي كان حكرًا على الدولة (الفرع الثاني).

الفرع الأول

مرحلة رفض مبدأ حرية الاستثمار والتجارة

إنّ عدم الإبقاء على مبدأ حرية التجارة والصناعة في الجزائر يرجع بالأساس إلى الاتّجاه الاشتراكي الذي اعتنقته الجزائر الذي من شأنه أن يؤدّي منطقيا إلى إزالة هذه الحرية، باعتبار أن النشاط التجاري يُـعدّ من قبيل النشاط الرأسمالي القائم على فكرة المضاربة. ففي الأنظمة الاشتراكية كالجزائر، تُـعدّ ممارسة التجارة من قبل شخص عام هي القاعدة، بيمنا المبادرة الخاصة هي الاستثناء.

وبالرجوع إلى أحكام دستور 1963 يلاحظ بأنه لم يضمن أية حرية اقتصادية في الباب المتعلق بالحقوق الأساسية. وأما دستور 1976، اعتبر بموجب المادة 14 منه أن أهم النشاطات الاقتصادية تمثل الملكية المحوزة من طرف المجموعة الوطنية التي تمثلها الدولة، وتعدّ أيضًا حكرًا على الدولة بصفة لا رجعة فيها. فلم يكن للقطاع الخاص مجالاً واسعًا للتدخل في الحقل الاقتصادي، بل تركت له مجالات ثانوية، وذلك على الرغم من استمرار العمل بالتشريع الفرنسي إلى وقت لاحق إلاّ ما كان يخالف السيادة الوطنية وفقا لقانون 62-157، المؤرخ في 31/12/1962، المتضمن استمرار العمل بالتشريع الجاري إلى وقت لاحق.

       كما أن المادة 16 منه لم تعترف إلاّ بالملكية الخاصة غير الاستغلالية Propriété privée non-exploiteuse التي اعتبرت جزء من التنظيم الاجتماعي الجديد، والتي كانت مقيّدة بوجوب المساهمة في تنمية البلاد وتحقيق المنفعة الاجتماعية، بالإضافة إلى أن هذا النوع من الملكية الخاصة انحصر فقط على الملكية الفردية ذات الاستعمال الشخصي أو العائلي.

وفضلاً عن ذلك، أضاف الميثاق الوطني لسنة 1976 أن الملكية الخاصة غير الاستغلالية يمكن أن تشمل على الوسائل الصغيرة للإنتاج والخدمات التي تُـستغل بصورة فردية أو بواسطة أيد عاملة محدودة. بينما الميثاق الوطني لسنة 1986 اعترف هو الآخر بهذه الملكية الخاصة لكن في حدود تجعلها لا تلحق أيّ ضرر بمصالح الجماهير الكادحة ولا تعرقل تطوّر المجتمع نحو الاشتراكية.  

الفرع الثاني

مرحلة تكريس مبدأ حرية الاستثمار والتجارة

تميّزت المرحلة الثانية بالانسحاب التدريجي للدولة من الحقل الاقتصادي. وكان سبب ذلك الأزمة التي عرفتها الجزائر ابتداء من سنة 1986، وذلك بفعل انخفاض أسعار العائدات النفطية في السوق الدولية، ممّا أدّى إلى تراجع العائدات المالية من العملة الصّعبة، إلى جانب مشكلة المديونية الخارجية. ولقد ترتّب على هذا الوضع لجوء السلطات العمومية إلى إجراء إصلاحات اقتصادية من أجل تحقيق سياسة تحرير الاقتصاد ليفتح المجال أمام المبادرة الخاصة الوطنية والأجنبية على حدّ سواء، وكان ذلك تجاوبًا والشروط التي أملاها صندوق النقد الدولي مقابل تقديم الإعانات المالية. 

إن بوادر تكريس مبدأ حرية التجارة والصناعة تعود إلى مرسوم رقم 88-201 المتضمن إلغاء جميع الأحكام التنظيمية التي تخوّل المؤسسات العمومية ذات الطابع الاقتصادي التفرد بأي نشاط اقتصادي أو احتكار للتجارة. وبعد ذلك، صدر في سنة 1989 أهمّ نص قانوني يتعلق بالأسعار. وتمّ بموجبه تحرير الأسعار وفقا لقاعدة العرض والطلب، وبالتالي التّخلي عن النظام السّعري الإداري، بحيث أكّدت المادة 3/2 منه على أن العرض والطلب يعتبران من المقاييس المحدّدة للسعر.

وبعد تعميق الإصلاحات ألغي هذا القانون بموجب الأمر رقم 95-06، المتعلق بالمنافسة والذي استبدل فيما بعد بالأمر رقم 03-03 المتعلق بالمنافسة. ويلاحظ أنه في سنة 1995، صدر كذلك الأمر رقم 95-22، المتعلق بخوصصة المؤسسات العمومية، بحيث سمح بتنازل الدولة عن مؤسساتها العمومية لصالح القطاع الخاص، ثم ألغي هذا الأمر واستبدل بالأمر رقم 01-04، المتعلق بتنظيم المؤسسات العمومية الاقتصادية وتسييرها وخوصصتها، بحيث تحدّدت بموجبه الأجهزة المكلفة بالخوصصة في ثلاثة أجهزة وهي مجلس الوزراء، مجلس مساهمات الدولة، الوزير المكلف بالمساهمات إلى جانب جهازين تقنيين هما شركات تسيير مساهمات الدولة ولجنة مراقبة عمليات الخوصصة.

تبيّن المادة 13 من الأمر رقم 01-04 السّالف الذكر مجال الملكية العامة محل الخوصصة والتي تتمثل في كل رأسمال المؤسسة أو جزء منه تحوزه الدولة مباشرة أو غير مباشرة و/أو الأشخاص المعنويون الخاضعين للقانون العام، وكذلك الأصول التي تشكل وحدة استغلال مستقلة في المؤسسات التابعة للدولة. وأما المادة 15 منه، تحدّد مجال الخوصصة بحيث يشمل جميع المؤسسات العمومية الاقتصادية التابعة لمجموع قطاعات النشاط الاقتصادي. كما يمكن أن تكون محل خوصة المؤسسات المثقلة بتبعات المرفق العام، على أن تتكفل الدولة بضمان استمرارية الخدمة العمومية.

تواصلت الإصلاحات الاقتصادية كذلك على المستوى الدستوري وبدى ذلك واضحًا من خلال دستور 1989، الذي كرّس الملكية الخاصة وضمانها بموجب المادة 49/1 منه. فالملاحظ بأن تكريس الملكية الخاصة يعني فتح مجال المبادرة أمام القطاع الخاص للتدخل في ممارسة الأنشطة التجارية، على خلاف ما كان عليه الوضع في دستور 1963 ودستور 1976.

كما أنه في سنة 1996، تمّ الاعتراف أخيراً بحرية التجارة والصناعة كمبدأ دستوري بموجب دستور 1996، بحيث نصت المادة 37 منه صراحة على أن : » حرية التجارة والصناعة مضمونة وتمارس في إطار القانون «.

نشير إلى أنه تطبيقاً للمادة 37 من دستور 1996، صدرت العديد من النصوص القانونية تهدف إلى تحرير مختلف النشاطات الاقتصادية من الاحتكارات العمومية لصالح المبادرة الخاصة لاسيما النقل الجوي، التجارة الخارجية والمحروقات. كما تمّ تحرير أيضًا بعض النشاطات المرفقية مثل البريد والمواصلات السّلكية واللاّسلكية، استغلال الكهرباء والغاز واستغلال الموارد المائية. 

عدّل المؤسّس في مرحلة لاحقة المادة 37 من دستور 1996 بمناسبة التعديل الدستوري الأخير لسنة 2016، فتغيّـر محتواها فأصبحت تضم حرية الاستثمار وحرية التجارة وتمنع الاحتكار والمنافسة غير النزيهة، بالإضافة إلى حماية حقوق المستهلكين. وتعتبر هذه المبادئ بمثابة النواة الصّـلبة لقانون الضبط. فالمادة 37 القديمة السّالفة الذكر، أصبحت المادة 43 من دستور 1996، التي تنص على ما يلي: «حرّية الاستثمار والتجارة مضمونة، وتمارس في إطار القانون.

تعمل الدولة على تحسين مناخ الأعمال، وتشجع على ازدهار المؤسسات دون تمييز خدمة للتنمية الاقتصادية الوطنية.

تكفل الدولة ضبط السوق. ويحمي القانون حقوق المستهلكين.

يمنع القانون الاحتكار والمنافسة غير النزيهة».  

ولكن يلاحظ أنه في مرحلة لاحقة عدّل المؤسس مرّة أخرى محتوى المادة 43 سالفة الذكر، بحذف الفقرات الأولى والثانية والثالثة، وإضافة مصطلح " المقاولة " في الفقرة الأولى، وذلك بموجب دستور 2020، حيث أصبحت تقابلها المادة 62 التي تنص على أن:« حرّية التجارة والاستثمار والمقاولة مضمونة، وتمارس في إطار القانون».