المحاضرة رقم 02  و03 في مقياس القانون الاقتصادي العام

السنة الثالثة ليسانس قانون عام (السداسي السادس)

 

الدكتور لكحل صالح

كلية الحقوق والعلوم السياسية

 

عنوان المحاضرة

بوادر الانفتاح الاقتصادي

 

يتطلّب تهيئة محيط تنافسي في ظلّ انسحاب الدولة من الحقل الاقتصادي والاندماج في الاقتصاد العالمي الاستعانة بمبادئ الاقتصاد اللّيبرالي، والتخلص من أساليب التسيير الاشتراكية التي لا تتّفق وآليات اقتصاد السوق. لذلك لجأت السلطات العمومية في إطار الإصلاحات الاقتصادية إلى تحرير الأسعار وفقا لقاعدة العرض والطلب (الفرع الأول) وتحرير التجارة الخارجية التي كانت في مرحلة سابقة حكرًا على الدولة، وذلك من أجل إنشاء سوق تنافسية على الصّعيدين الوطني والدولي، خاصة مع وأن الدولة في ظلّ ما تفرضه العولة اليوم لا تستطيع أن تعيش بمعزل عن المجتمع الدولي (الفرع الثاني).

 

الفرع الأول

تحرير الأسعــار

 

كانت وزارة التجارة تُحدّد بقرارات انفرادية أسعار جميع المنتجات الصناعية والزراعية، آخذة بعين الاعتبار مستوى القدرة الشرائية للمستهلكين دون مراعاة التّـكاليف المالية التي تقع على عاتق المؤسسات العمومية في عملية الانتاج والتوزيع، ممّا جعل هذه المؤسسات تؤدّي دوراً مرفقيًا يُــشبه لحدّ بعيد الدور الذي تؤدّيه المرافق العامة التقليدية. ولقد اتّضح ذلك أيضًا في الميثاق الوطني لسنة 1976، حيث جاء فيه ما يلي: «(...) لا يتصور في نظام اشتراكي يعتمد التخطيط، أن يخضع تحديد الأسعار لتقلبات العرض والطلب (...)».

دام ذلك الوضع إلى غاية سنة 1989، ليتم تحرير الأسعار وفقا لقاعدة العرض والطلب، بناء على صدور قانون الأسعار، الذي مهّــد لتكريس مبدأ حرية المنافسة، بحيث أكّدت المادة 3/2 منه أن العرض والطلب يُـعتبران من المقاييس المحدّدة للسّـعر، ليتم التخلّي عن النظام السّــعري الإداري. وأما المادة 26 وما بعدها تعاقب كل تصرف من شأنه أن يُعتبر من قبيل الممارسات المقيّــدة للمنافسة الحرة، كالتشجيع المصطنع في رفع الأسعار قصد المضاربة. 

وبعد تعميق الاصلاحات الاقتصادية، أُلغي قانون الأسعار لسنة 1989، واستبدل بالأمر رقم 95-06، المتعلق بالمنافسة، الذي شكّــل خطوة للانتقال من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق، من خلال تكريسه لحرية الأسعار والمنافسة المشروعة بين الأعوان الاقتصاديين، والذي أُلغي هو الآخر في 2003، ليُستبدل بالأمر رقم 03-03 المتعلق بالمنافسة، حيث تؤكّد المادة 4 منه على أن : « تحدد أسعار السلع والخدمات تحدّد بصفة حرة وفقا لقواعد المنافسة الحرة والنزيهة.

تتم ممارسة حرية الأسعار في ظل احترام أحكام التشريع والتنظيم المعمول بهما وكذا على أساس قواعد الإنصاف والشفافية، لا سيما تلك المتعلقة بما يأتي :

-      تركيبة الأسعار لنشاطات الإنتاج والتوزيع وتأدية الخدمات واستيراد السلع لبيعها على حالها،

-      هوامش الربح فيما يخص إنتاج السلع وتوزيعها أو تأدية الخدمات،

-      شفافية الممارسات التجارية».

نلاحظ بأنه إذا كانت القاعدة العامة وفقا لهذه المادة تقضي بتكريس مبدأ حرية الأسعار وفقا لقانون المنافسة، إلاّ أن المادة 5 من الأمر رقم 03-03، السّالف الذكر، أوردت استثناء على هذه القاعدة مفاده أن الدولة بإمكانها أن تتدخل في مسألة تحديد هوامش وأسعار السلع والخدمات، أو الأصناف المتجانسة من السّلع والخدمات أو تسقيفها أو التصديق عليها عن طريق التنظيم بناء على اقتراحات القطاعات المعنية وذلك لأسباب رئيسية.

يرجع السّبب الأول إلى تثبيت استقرار مستويات أسعار السلع والخدمات الضرورية، أو ذات الاستهلاك الواسع، إذا تبيّـن وجود اضطراب محسوس للسوق. بينما يتعلق السّبب الثاني بمكافحة المضاربة بجميع أشكالها والحفاظ على القدرة الشرائية للمستهلك. وفضلاً عن ذلك، يمكن للدولة أن تتّخذ تدابير وقتية لتحديد هوامش الربح وأسعار السّلع والخدمات أو تسقيفها، حسب الأشكال نفسها في حالة ارتفاعها المفرط وغير المبرّر، لاسيما بسبب اضطراب خطير للسوق أو كارثة أو صعوبات مزمنة في التموين داخل قطاع نشاط معيّن أو في منطقة جغرافية معيّـنة أو في حالات الاحتكار الطبيعية. فالدولة وإن كانت تشجع المنافسة المشروعة إلاّ أنها تخشى نتائجها الاجتماعية، حيث تقوم برقابتها لحماية الضعفاء من أقوياء السوق، فتدخل الدولة إذن في المجال الاقتصادي يُعدّ أمرًا ضروريًا للتوفيق بين حرية المنافسة وبين مقتضيات المصلحة العامة.

 

الفرع الثاني

تحرير التجارة الخارجية

 

عرفت التجارة الخارجية بعد استقلال الجزائر نظام التسيير الإداري الذي وضع بصفة تدريجية، ليتطوّر من مجرّد رقابة بسيطة إلى تأميم فعلي للمبادلات الخارجية التي أصبحت حكرًا على الدولة (أولا). ولكن اندرجت الإصلاحات الاقتصادية منذ أواخر الثمانينات إلى ضرورة تحرير التجارة الخارجية لفائدة القطاعين العام والخاص بما يتماشى والانتقال إلى اقتصاد السوق (ثانيا).

 

أولا- مرحلة احتكار التجارة الخارجية:

 

أنشأت في 1963 دواوين عمومية للتجارة الخارجية، وبعدها تم إحداث شركات وطنية للاستيراد في 1969، لتظهر بعد ذلك شركات صناعية كبرى جرّاء سياسة التصنيع المتّبعة ابتداء من 1970، بحيث مُـنحت هذه الشركات احتكار استيراد المنتوجات التابعة للمجال الذي تنشط فيه، وذلك الاحتكار بواسطة توزيع رخص الاستيراد. وأصبح بعد ذلك نشاط الاستيراد منذ 1974، يتم في إطار البرنامج العام للاستيراد المبرمج من قبل الحكومة، الذي كان يتم وفق أنظمة محدّدة كما يلي:

1. نظام الرخصة الإجمالية للاستيراد تسلّم لهيئات القطاع العمومي الحائزة على احتكار الاستيراد، ومؤسسات الانتاج والخدمات في القطاع العمومي لإنجاز برنامجها الخاص، ومؤسسات القطاع الخاص لأجل تلبية متطلبات نشاطاتها،

2. نظام البضائع التي لا تكون موضوع أي تقييد، بحيث يمكن استيرادها بكل حرية دون حاجة لأي إجراء، شريطة مراعاة الالتزامات الخاصة التقنية والصحية المطبقة على بعض المنتجات،

3. نظام الحصص الذي يسري على القائمين بالعمليات التجارية الذين ليس لا ينتفعون بالرخص الإجمالية للاستيراد.

توقف العمل كذلك باحتكارات التصدير إلاّ فيما يتعلق بالمنتجات المدرجة عن طريق التنظيم. وعرفت هذه الفترة حرية تجارة التصدير دون تقديم رخصة، على أن ممارسة هذه الحرية كان مقيّـدًا بوجوب الحصول على ترخيص مسبق من قبل وزير التجارة إذا استلزم الأمر حماية الاقتصاد الوطني.      

تغيّرت سياسة الدولة فيما بعد بخصوص تنظيمها للتجارة الخارجية، فأصبحت محتكرة لهذا القطاع الحيوي بلا منازع، وتأكّد ذلك من خلال دستور 1976، بحيث نصت المادة 14 منه أن احتكار الدولة يشمل التجارة الخارجية بصفة لا رجعة فيها. وبناء على ذلك، اعتبر القانون رقم 78-02 المتعلق باحتكار الدولة للتجارة الخارجية، بموجب المادة الأولى منه أن عمليات استيراد وتصدير البضائع والسلع والخدمات بجميع أنواعها من اختصاص الدولة وحدها. وكانت الدولة تمارس التجارة الخارجية بواسطة المؤسسات العمومية الوطنية، الدواوين والهيئات العمومية ذات الطابع الصناعي أو التجاري أو الإداري في إطار برنامج عام سنوي للاستيراد والتصدير يحدّد من قبل الحكومة. وفضلا عن ذلك، مُـنع بصفة قطعية تدخل أي وسيط والاستعانة بأي وسيط في عمليات التجارة الخارجية بصورة مباشرة أو غير مباشرة بمناسبة التحضير أو التفاوض، أو الإبرام أو التنفيذ لأي صفقة أو أي عقد، تحت طائلة فرض الجزاءات المنصوص عليها في تقنين العقوبات. 

نلاحظ بأنه لم يُـترك للقطاع الخاص منفذًا للتدخل في التجارة الخارجية، واعتبرت منحلّة بقوّة القانون كافة المؤسسات الخاصة للاستيراد والتصدير والتي يكون غرضها الأساسي منها التحضير أو التفاوض أو التنفيذ لعمليات خاصة بالتجارة الخارجية، إلاّ في حالات ضيّقة وذلك عندما تمنح الحكومة رخصا للاستيراد ولمدّة وجيزة.

نميّـز في هذا الصّـدد، بين رخص الاستيراد الممنوحة لفائدة المؤسسات الأجنبية صاحبة صفقة أو عقد أبرم مع الدولة أو إحدى هيئاتها في حالة ما إذا كان استيراد المعِدّات والمنتوجات الموجهة لإنجاز الأعمال موضوع الصفقة أو العقد متروكا القيام بهما تعاقديا تحت مسؤولية المؤسسة الأجنبية، ورخص الاستيراد الممنوحة لأشخاص القانون الخاص الاعتباريين الجزائريين، وذلك بصفة انتقالية إلى أن تقيم الدولة هيئات الاستيراد اللاّزمة لكي يصبح احتكار الدولة للتجارة الخارجية كامل الفاعلية، على أن هذه الحالة الأخيرة عرفت نوعا من التفتّـح في 1988 بمناسبة إصدار القانون رقم 88-29، المتعلق بممارسة احتكار الدولة للتجارة الخارجية، بحيث سمحت المادة 9 منه تسليم رخص استيراد لفائدة المؤسسات الخاصة الوطنية، وذلك فيما يخصّ السلع والخدمات التي لا تتكفل بها واردات أصحاب الامتياز في الاحتكار.

كما أشار القانون رقم 88-29، السّالف الذكر، على مواصلة الدولة ممارستها لاحتكار التجارة الخارجية، لكن عن طريق امتيازات تمنحها لمؤسسات عمومية، هيئات عمومية وتجمعات ذات مصلحة مشتركة. وتمنح هذه الامتيازات وفقا لدفتر شروط يحدّد فيه حقوق وواجبات أصحاب الامتياز إزاء الدولة، بحيث لم تعد الدولة مثلا تكلّف مسبقا مؤسسة عمومية للاستيراد، أو مؤسسة وحيدة فقط، ليفتح بذلك مجال المنافسة بين المؤسسات العمومية في المعاملات التجارية الدولية.

 

ثانيا- مرحلة التحرير التدريجي للتجارة الخارجية:    

 

أخذت معالم تحرير التجارة الخارجية تظهر انطلاقا من صدور دستور 1989، بحيث لم تصبح حكرًا على الدولة، وذلك بموجب المادة 19 منه التي على الرغم من اعتبارها بأن تنظيم التجارة الخارجية من اختصاص الدولة، إلاّ أن القانون هو الذي سيحدّد شروط ممارستها ومراقبتها. وبالفعل، فإن قانون المالية التكميلي لسنة 1990 سمح للأشخاص الذين يمارسون نشاط البيع بالجملة والوكلاء المعتمدين باستيراد بضائع للاستهلاك والمخصّصة لإعادة بيعها.

وفي سياق ذلك، أجاز نظام رقم 90-04، المتعلق باعتماد الوكلاء وتجار الجملة بالجزائر وتنصيبهم، الإقامة لهؤلاء في الجزائر وممارسة الاستيراد الحر للبضائع بهدف بيعها على حالها بمجرّد الحصول على اعتماد مجلس النقد والقرض. بينما في سنة 1991، وعلى إثر مفاوضات اتفاق التثبيت مع صندوق النقد الدولي صدر المرسوم التنفيذي رقم 91-37، المتعلق بشروط التدخل في مجال التجارة الخارجية، الذي فتح مجال ممارسة التجارة الخارجية لفائدة كل مؤسسة تنتج سلعا وخدمات مسجلة في السجل التجاري، كل مؤسسة عمومية، التجار بالجملة سواء كانوا أشخاصا طبيعية أو معنوية مسجلون في السجل التجاري.

كما أكّـد نظام رقم 91-03 المتعلق بشروط القيام بعمليات استيراد سلع للجزائر وتمويلها، أنه بإمكان الأشخاص الطبيعية أو المعنوية المسجلة قانونا في السجل التجاري أن تقوم، ابتداء من أول أبريل سنة 1991، باستيراد أية منتوجات أو بضائع ليست ممنوعة ولا مقيّدة، وذلك بمجرد أن يكون لها محل مصرفي ودون أية موافقة أو رخصة قبلية. وأحال المرسوم رقم 91-37 السّالف الذكر، أن ما يتعلق بالشروط والقواعد المالية التي تخضع لها عمليات التجارة الخارجية تجري حسب القواعد المبيّـنة من قبل بنك الجزائر، الذي ألغى جميع الأحكام التنظيمية المتعلقة بالترخيص المسبق للاستيراد ومراقبة الصرف القبلية المرتبطة بعمليات التجارة الخارجية، لا سيما تلك المتعلقة بميزانيات العملات الصعبة ومخططات التمويل، التي استبدلت بنشاط التمويل الخارجي تقوم به البنوك.

يلاحظ بأن صدور كل تلك النصوص القانونية الهادفة إلى التجسيد الفعلي لتحرير التجارة الخارجية اصطدم أمام بقاء القانون رقم 88-29 المتعلق بممارسة احتكار الدولة للتجارة الخارجية ساري المفعول، بحيث لم يُلغ هذا الأخير إلاّ في 2003، وذلك عندما صدر الأمر رقم 03-04، المتعلق بالقواعد المطبقة على عمليات استيراد البضائع وتصديرها، حيث تضمّـنت المادة 2/1 منه صراحة على أن تنجز عمليات استيراد المنتوجات وتصديرها بكل حرية. وتضيف المادة 4 من الأمر رقم 03-04، السّالف الذكر بأن عمليات الاستيراد والتصدير لا يمكن أن ينجزها إلاّ الأشخاص الطبيعيون أو المعنويون الذين يمارسون نشاطًا اقتصاديًا.

نستنتج بأن المشرّع لم يميّز بين هؤلاء الأشخاص ما إذا كانوا وطنيون أم أجانب، على خلاف ما كان عليه الوضع في السابق حيث لم يسمح بممارسة نشاطات استيراد المواد الأولية والمنتوجات والسّلع الموجهة لإعادة البيع على حالتها إلاّ للشركات التجارية التي يساوي أو يفوق رأسمالها عشرة (10) ملايين دينار وأن يكون الرأسمال في حوزة الأشخاص ذوي جنسية جزائرية مقيمين في الجزائر. بينما لم توضّح المادة 4 المشار إليها أعلاه المقصود بالنشاط الاقتصادي، لذلك يتعيّن الرجوع إلى ما ورد في المادة 3/أ من الأمر رقم 03-03، المتعلق بالمنافسة، لاستنباط مفهوم النشاط الاقتصادي الذي يشمل نشاطات الانتاج والتوزيع.